غرباء بقلوب متّصلة 3
"الكتاب"
(خُماسيّةٌ شِعْريّةٌ عن كلِّ شيءٍ منسيٍّ يحمِلُ روحًا وذاكرةً)
في القاهرة،
عند سورِ الأزبكيّة، اشترتْ نورُ كتابًا قديمًا يحمل عنوانه: "يوميّاتٌ في يومٍ مريض".
لم تفهم المعنى بادئَ الأمر؛ كان الكتابُ مُهترِئًا، وصفحاتُهُ صفراءَ بفعلِ الزَّمن.
وعلى الصفحةِ الأولى، سطرٌ مكتوبٌ بحبرٍ أسود:
"إذا وجدتَ كتابي… فأنا ميّتٌ الآن."
ومن شدّةِ الدَّهشة وارتفاعِ الحاجبين كأبوابٍ مشرعة، اكتشفتْ نور أنّ تلك اليوميّات ليست مطبوعةً كالغلاف،
بل مكتوبةٌ بخطٍّ مُرتعش… يزدادُ اضطرابًا مع كلّ صفحةٍ تقلبها.
كاتبُ اليوميّات رجلٌ يُدعى مصطفى الشامي، طبيبٌ نفسيٌّ في مستشفى العبّاسيّة،
وكان يدوّن حالةَ مريضةٍ تُدعى سلمى — امرأةٌ تدّعي أنّها تسمع أصواتَ الموتى عبر الأشياء التي يلمسونها.
في البداية، كان مصطفى يعتقد أنّها تهذي…
لكن مع الوقت، بدأ هو الآخر يسمع.
كتبَ في إحدى الصفحات:
"اليومَ لَمَستُ ساعةَ سلمى… سمعتُ صوتَ أمِّها الميّتة يناديها.
هذا مستحيل… لكنّني مُوقِنٌ بما سمعت."
كانت نورُ تقلّب الصفحاتِ بيدين مُرتعشتين،
تأكلُ الحروفَ والأحداثَ بنَهَم،
حين وصل مصطفى إلى مرحلةِ هَوَسٍ صريح، ودوّن:
"سلمى ليست مريضة… العالَمُ هو المريض.
نحن مُحاطون بأرواحٍ تصرخ، ولا يسمعها أحد."
ثمّ توقّفت اليوميّات فجأة…
آخر صفحةٍ كُتبت بخطٍّ مُشوَّه، كأنّ يدًا تُحتضَر:
"سلمى ماتت الليلة… شنقَتْ نفسَها بوشاحِ أمِّها.
والآن… أسمعُ صوتَها من بين السطور.
تقول لي ببُحّةِ ضِفدع:
لا تلمسْ شيئًا يخصّني… وإلّا ستُصاب بلَعنتي،
وستسمعني… إلى الأبد."
ارتجفتْ نور، وتلفّتتْ حولها كأنّها اكتشفتَ ما خلفَ الظلال،
وكأنّها — رغماً عنها — أصبحت جزءًا من الرواية.
سقط الكتابُ من يدها وهي تلهث…
لكن الأوان كان قد فات.
في تلك الليلة، سمعَتْ هَمْسًا خافتًا في غرفتها، بالبُحّة ذاتها:
"نور… لقد سمعتِني الآن… أنتِ واحدةٌ منّا."
في الصباحِ الباكر، ذهبتْ نور إلى مستشفى العبّاسيّة تبحث عن مصطفى الشامي.
قالوا لها:
"انتحرَ عام 1987… كان يهذي قبل موته،
يقول إنّ الموتى يتحدّثون إليه من وراء التُّراب."
عادت نور إلى بيتها.
وضعت الكتاب في موقدِ المدفأة، وأضرمت النارَ فيه،
لكن الصوت لم يتوقّف…
كان يهمس لها كلّما لمستَ شيئًا قديمًا:
"نحن لا نموت…
نحن ننتقل."
محمد الحسيني – لبنان





