المرايا المائلة
في بلدةٍ صغيرةٍ محاطةٍ بالتلال،
كان يعيش رجلٌ يُدعى نادر السالم
معلّمٌ للغة العربية،
هادئ الطباع،
صادق النظرات،
لا يرفع صوته حتى في وجه الظلم.
كان الناس يحترمونه، إلى أن ظهر بينهم رجلٌ جديد اسمه ماهر الطويسي —
مالك محلٍّ كبيرٍ للأدوات المنزلية، كثير الكلام، يبتسم أكثر مما يصمت،
وكان يملك مهارة واحدة:
يحسن رسم الأكاذيب بألوان الحقيقة.
كان نادر يعلّم أبناء البلدة الصدق والتواضع،
ويقول دائمًا لتلاميذه:
الكلمة الصادقة كالماء،
قد تتسخ أحيانًا،
لكنها لا تفقد نقاءها.
لكن ماهر لم يكن يحبّ الصدق،
كان يرى أن الحقيقة تُضعف،
وأن من يريد السيطرة يجب أن يصنع صورته بنفسه، ولو كانت زائفة.
وذات مساء، جلس الاثنان في المقهى،
قال ماهر بصوتٍ عالٍ أمام الناس:
هذا المعلّم يتظاهر بالطيبة،
لكنه يكره أغنياء البلدة،
يحسدهم على رزقهم!
ضحك البعض، وتبادلوا النظرات.
أما نادر، فابتسم بهدوءٍ وقال:
أنا لا أحسد أحدًا،
فقط أتمنى أن يكون العدل أثمن من الذهب.
لكن الكلمات لم تجد من يسمعها.
في اليوم التالي، بدأت الشائعات تدور كريحٍ خفيفةٍ لا تُرى،
ثم تحوّلت إلى إعصارٍ يُهين.
صار الناس يتهامسون:
نادر منافق،
يتحدث عن القيم ويخفي كرهه في قلبه.
حاول أن يشرح،
أن يدافع عن نفسه،
لكن كل من نظر إليه،
كان يرى الصورة التي رسمها ماهر لا وجهه الحقيقي.
كأن البلدة كلها صارت مرآة مائلة،
تعكس كل شيء معوجًا،
وتخفي الاستقامة تحت ظلّ من الظنون.
حتى أقرب أصدقائه، صار يبتعد بصمت.
حتى تلاميذه، صاروا يتجنبون النظر في عينيه.
وذات صباحٍ غائم، قرر نادر الرحيل.
جمع كتبه القديمة،
وأوراقه التي كتب فيها أشعارًا عن الصدق،
وترك على باب المدرسة ورقةً بخط يده:
إن كان الضوء يمرّ من زجاجٍ مكسور، فسيبدو مائلًا…
ليس الضوء هو الأعوج، بل الزجاج.
غادر البلدة دون ضجيج،
وبعد أشهر، اكتشف الناس أن ماهر اختلس أموال مشروعٍ كان يُديره باسمهم.
وحين حاولوا العثور على نادر ليعتذروا، لم يجدوه.
لكن على جدار المدرسة ظلّت الورقة معلّقة،
تحرّكها الرياح كما لو كانت تتنفس،
وصارت عبارته تُروى للأجيال:
قد يكون المرء مستقيمًا،
لكن من يعكس صورته هو الأعوج،
فلا تصدّق كل ما تراه في المرايا المائله
سالم حسن غنيم

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق