الرغيف
بصوتٍ يهمس من أعماق النفس، كما لو كان اعترافاً في حضرة الغابة، أو تأملاً تحت ضوء القمر…
كم من مرة اجتاحتني رغبة لا تُقاوَم في الحديث، لا لأُخبر، بل لأعترف…
كانت أيامي سلسلة من الخضوع، لا عن ضعف، بل عن حاجةٍ تمسك بتلابيب الروح، وتجرّها إلى حيث يُخبز الرغيف.
هناك، حيث القرار لا يُصنع في القلب، بل يُفرض من فم الجوع،
كان ربّ العمل هو الأذكى، لا لأنه يفكر، بل لأنه يملك…
كان فوق القانون، فوق النظام، فوق السماء ذاتها،
في وطنٍ يتغنّى بالشرائع الإلهية، ويُخفي تحت مظلّتها عبوديةً لا تُرى.
الاستمرار في العمل كان استمراراً في الاستسلام،
وكانت الكبرياء مرآةً مشروخة يرى فيها الإنسان ماضيه المُهان وحاضره المُهان أكثر.
كان عليّ أن أُقنع الجميع، وأولهم ذلك السيد، أنه موهوب، مميز، شريف،
فقط لأحظى بالأمان، فقط لأبقى على قيد الحياة.
عشرون عاماً، وأنا أُتقن تعذيب نفسي،
أُقنعها أن الطيبة تُنقذ، أن الرقة تُرضي،
وفي كل يوم، كنت أحقن شراييني بجرعة جديدة من الكراهية،
أُخزّن البغض كما يُخزّن الفلاح القمح،
أعجن لحمي بالذنب، وأمزج أوهامي بالدم،
حتى أصبحت روحي مستعمرةً للكوابيس.
لوحاتي؟ كانت سوداء،
ألوانها لا تعرف النور،
جدران أفكاري ملوّثة بالحزن،
والقواميس التي علّمتني الكلام، مزّقتها بيدي.
تجاهلت الشمس،
وصنعت تاريخاً مشوّهاً لأمسٍ لم يكن لي فيه خيار.
لم أجرؤ على الرفض، حتى همساً،
وسرت على طريق الرغيف،
طريق لا يُسمح فيه بالاختيار،
طريق الوحدة،
حيث لا أخ، لا صديق، لا جار…
فقط أنا، وظلّي، وصوتٌ داخلي يهمس:
هل هذه هي الحياة التي وُعدنا بها؟
إبراهيم العمر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق