طفلٌ يسكنني، وفلسفةٌ لا تكبر
إبراهيم العمر .
أنا لا أقول “أنا طفل”، بل أقول:
يسكنني كائنٌ صغير،
يمسك بيدٍ لا يعرف لمن،
يتّجه نحو بائع الأيس كريم،
لا رغبةً في السكر، بل توقًا للطمأنينة،
ثم ينتهي به المسير أمام ورشةٍ لإصلاح ما لا يُصلَح:
الزمن، والخيبة، والانتظار.
حلقه جاف،
لا من العطش، بل من الأسئلة التي لا تُشرب،
وعيناه تدمع،
لا من الألم، بل من إدراكٍ مبكر أن اليد التي أمسكت به
لم تكن تعرف الطريق.
أصابعه ترتخي،
كأنها تكتشف أن التمسّك وهم،
وأن اليد التي تُفلت ليست خيانة، بل نهاية درس.
فيمسي وحيدًا،
دون دليل،
دون رأسٍ يفكّر،
دون حلمٍ يُرشد،
دون يدٍ تُمسك،
ودون أيس كريم…
كأن اللذة كانت وعدًا مؤجّلًا،
وكأن الطفولة ليست عمرًا، بل استعارة.
---
الطفل يبكي حين يجوع،
ويضحك حين يشبع،
فهل نحن الكبار نختلف؟
أم أننا نُلبس الغريزة قناعًا فلسفيًّا،
ونُسمّي الأوجاع “تجارب”،
والملذات “اختيارات”،
وننسى أن البكاء والفرح،
كلاهما ظرفيّان،
ينتهيان حين يُلبّى الطلب،
أو يُكسر التوق.
فهل الحزن الكبير يُولد معنا؟
أم أنه يُكتسب حين نُدرك أن العالم لا يُشبهنا؟
وهل الكآبة ميراث؟
أم لعنةٌ تُصيب من تجرّأ على الحلم؟
---
أنا أرى،
أن النفوس الكبيرة لا تُصاب، بل تُستهدف،
وأن الأرواح المرهفة لا تُجرح، بل تُفضح،
وأن الأضلاع الهشّة لا تنكسر، بل تُختبر.
كل شيء يبدأ صغيرًا ويكبر،
إلا المصيبة،
تأتي ضخمة، ثم تتقلّص،
لا لأنها خفّت،
بل لأننا تعلّمنا أن نحملها.
ضربة المطرقة الأولى،
هي التي تُعلّم المسمار معنى الألم،
ثم تأتي الضربات الأخرى،
فتصنع ألفةً بين المطرقة والمسمار،
وبين المسمار والشرخ،
وبين الفم والصرخة،
وبين الإحساس والوجع.
---
النقاء ليس فضيلة، بل مخاطرة،
الصفاء ليس راحة، بل هشاشة،
الشفافية ليست وضوحًا، بل انكشاف،
الصدق ليس قوة، بل عُري،
الثقة ليست عقلًا، بل قلبٌ بلا درع،
الطهارة ليست نقاءً، بل قابليةٌ للخذلان،
الحياء ليس جمالًا، بل قابليةٌ للانتهاك،
والحب؟
الحب هو كل تلك الفضائل مجتمعة،
ولهذا، حين يُخان،
لا يُكسر القلب فقط،
بل تُكسر الفكرة،
ويُكسر الإيمان،
ويُكسر العالم.
---
بقدر ما نثق،
نُخذل.
بقدر ما نحب،
نُفقد.
بقدر ما نحلم،
نُصاب بالخيبة.
وبقدر ما تكون الروح طاهرة،
تكون الفضيحة مميتة،
لا لأنها تكشف،
بل لأنها تُعلن أن الطهارة لم تكن درعًا،
بل كانت دعوةً للذبح.
---
أنا مثل طفلٍ صغير،
لكنني أفكّر كمن عاش ألف عام،
وأشعر كمن لم يُشفَ قط،
وأكتب كمن لا يملك إلا الحرف ليحتمي به من العالم.
——
إبراهيم العمر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق